خاطرة رقم من أرقام المدينة

خاطرة رقم من أرقام المدينة , كلمات خواطر حزينة مكتوبة خاطره مكتوبه, خواطر كتابية رائعة

خاطرة رقم من أرقام المدينة

خاطرة رقم من أرقام المدينة

كانت طفلة جميلة، حقا، لقد أعطاهم الله كل شيء. بنات تلك البلاد كن جميلات، حور عين، ذوات ضفائر طويلة منذ الصغر، وحناجرهن تقطر شهد العسل. لقد أعطاهم الله حب العمل وقلوب بيضاء وأخلاق سامية، وجعل سيرتهم طيبة في كل في أركان الأرض. جعل فيهم أكثر الخير… جميل يا ابنتي.

الطفلة كانت جميلة إذن، تحن إلى جدتها التي سافرت. كانت تحب سماع قصصها عن الغول والضباع والفئران الماكرة، وعن الفيلة والفتيات التي تتزوج صغراهن بالأمير البطل. كانت عيونها واسعة. لقد أعطى الله لأبناء ذاك البلد كل شيء يا ابنتي. لا أحد يعلم سبب ما حصل لهم سوى هو. لا أحد يعلم لماذا ذرفت العيون الواسعة الدموع، ولا لماذا استنزفت قدراتهم في الشتات على الأرض، ولا أحد يعلم سبب طردهم من أرضهم، ولا لماذا لفظتهم الأراضي من كل مكان.

لا أحد يعلم لماذا فتتت أرضهم بما عليها أجزاء كثيرة، بانفجارات صارخة، وأعضاء أجساد تتطاير في كل مكان. لا أحد يعرف كيف اعتادت آذانهم سماع شهقات بكاء تخنق صاحبها، وصرخات في الليل تمزق النفس، ولا كيف اعتادوا رائحة الدماء، أو كيف يودعون بعضهم بكل اطمئنان، ليس لأنهم ناجون، بل لأنهم لاجئين إلى الله. لا أحد يعلم كيف لقلوبهم أن تحمل كل هذا الإيمان. لم يلتفتوا يوما إلى ربهم سائلين إياه بكل قبح “لماذا يا الله؟”

لا لم يفعلوا هذا.

لست أدري قدر الإيمان الذي يرشونه على أجسادهم قبل التكفين، وكيف اعتادوا سماع صوت الأذان من مكان غير معروف، فلا صوامع في بلاد المؤمنين تلك بقيت. يظن البعض أن الملائكة تؤذن لهم وتصلي.

يا ابنتي، لا أحد يعلم ما الذي حل بتلك الصغيرة، أين جدتها، وهل لأمها ابنة أخرى تحمل نفس الملامح الناعمة. لا أحد يعلم تحت أي حجارة ترقد أحلامها، ولا على أي حجارة تساقطت دموع أهلها. فيا ابنتي، لم تعد لتلك المدينة ملامح، ولم تعد تستطيع الابتسام.

احذري يا صغيرتي اللعب بالنار، فإن احترق وجهك، وذابت ملامحه، ستبدين مثل تلك المدينة، بسكانها التائهين في شوارع بلا اسم، لا يضيئها مصباح خافت، ولا هي عادت شوارع أصلا. فاحذري يا ابنتي، إن تلك المدينة لم تكن تدرك مدى خوفها من الليل والضباب والأصوات وصلوات الجنازة التي لا تنقطع، والبنايات التي تخر ساجدة دون ركوع أو تلاوة، ولم تدرك هل يحق لها أن تتشبث بأمل -أي أمل-، هل تجلس على نافذة صغيرة يمين المنزل، تنتظر غائبا لن يعود؟ أم تخلد لنوم ينهي كل شيء؟ تلك المدينة شعرت بالخوف والأمل والإحباط والذهول وآلام الولادة والنزيف والحريق والبتر والطعن، شعرت بالقرف والفراق والحزن الذي لم يعد له اسم، وشعرت بفرحة صغيرة حين تزوج أبناءها، وبكى أول أولادهم، وحين أطفئت شموع أثيرة، وغفت عيون صغيرة، لقد شقت البسمة طريقا إلى وجه المدينة المحترقة عندما صلى أهلها في الليل، وفي الصباح، وفي أوقات الصلوات الخمس والنافلة. ابتسمت. لأن الخير يا ابنتي يجد طريقا دائما إلى صاحبه. الخير يعود دائما في النهاية. المؤمن يتوب دائما ويغفر الرب له.

لا، لا تبك يا ابنتي، فأنت أيضا من أبناء تلك البلاد، أنت أيضاء حوراء العين، شقراء الشعر، تجدلينه كل يوم في حضن أمك. أنت أيضا ستكونين رقما من أرقام المدينة، وستدخلين من باب لك وحدك إلى الجنة. وأنا ذاهبة، لكن عديني يا حبيبتي، عديني ألا تدخليه سوى بعد أن تسألي ربك عني، وتخبريه أنني رفيقة لك في دار الخلد التي لا أستحقها.

قد يعجبك ايضا